الصيد الثمين . . في أحكام اليمين
أبو أحمد ( مهذب )
الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والآل .. . وبعد
فهذا مبحث لطيف فيما يتعلق بالحلف واليمين والقسم ، وذلك لأن الأيمان من شعائر الله التي بها يعظّم جل وتعالى . والتي أمر الله تعالى بتعظيمها حق التعظيم .
فأقول بالله وبالله أنا :
أولاً : الإقسام بالله وما يتعلّق به .
• معنى ( الحلف ) .
قال في اللسان :
حلف: الـحِلْفُ والـحَلِفُ: القَسَمُ لغتان، حَلَفَ أَي أَقْسَم يَحْلِفُ حَلْفاً وحِلْفاً وحَلِفاً ومَـحْلُوفاً .
والـحَلِفُ: الـيمين وأَصلُها العَقْدُ بالعَزْمِ والنـية .
ويسمى الحلف " يميناً " قال في القاموس :
واليَمينُ: القَسَمُ، مؤنَّثٌ لأَنَّهُمْ كانوا يَتَماسحونَ بأيْمانِهمْ، فيتحالفونَ .
- واليمين ( الحلف ) في الشرع : هو تأكيد الشيء بذكر معظّم بصيغة مخصوصة بالباء أو التاء أو الواو ( 1 )
أو : هي توكيد الأمر المحلوف عليه بذكر الله، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته على وجه مخصوص، وتسمى الحلف أو القسم. واليمين فيها معنى التعظيم للمحلوف به .
• حروف القسم .
حروف القسم ثلاثة :
الواو : والله . .
الباء : بالله . .
التاء : تالله . .
الفرق بين هذه الأحرف :
- الباء : هي أعمّ هذه الحروف لأنها تدخل على الظاهر والمضمر ، وعلى اسم الله وغيره ويذكر معها فعل القسم ويحذف . فيذكر نحو : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " .
ويحذف نحو قولك : بالله لأفعلن .
وتدخل على المضمر نحو قولك : الله عظيم أحلف به لأفعلن .
وتدخل على الظاهر كما في الآية .
وتدخل على غير لفظ الجلالة كقولك : بالسميع لأفعلنّ .
- الواو : لا يذكر معها فعل القسم ولا تدخل على الضمير ويحلف بها مع كل اسم .
- التاء : لا يُذكر معها فعل القسم ، وتختص بـ ( الله - رب ) فتقول : تالله ، تربّ ( 2 )
• أقسام الحالفين من جهة المقسم به .
لمّا كان اليمين فيه تعظيم وتشريف للمحلوف به انقسم المقسم به إلى قسمين من جهة الحالفين .
الأول : أن يكون المقسم هو الله .
فالله عز وجل له أن يقسم بـ :
- صفاته كما ورد في الحديث القدسي " وعزتي وجلالي " ( 3 )
- وله جل وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته .
في نحو : " والعصر . . والفجر . . والتين . . والليل . . والشمس . . "
- معنى القسم من الله .
القسم من الله ليس معناه طلب تصديق القارئ أو السامع .
إنما القسم من الله له معاني :
1- تعظيمه جل وتعالى ، لأن القسم بهذه المخلوقات تعظيمٌ لها ؛ ورفع شأنها متضمنٌ للثناء على الله بما تقتضيه من الدلالة على عظمته .
2 - توكيد جواب القسم .
3 - تعظيم المقسم به وتشريفه .
الثاني : أن يكون الحالف هو المخلوق .
والمخلوق لا يقسم إلا بالله جل وتعالى أو بأي اسم من أسمائه أو بصفة من صفاته ، ولا يجوز له أن يقسم بالمخلوق .
قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )). ( 4 )
- حكم الحلف بغير الله .
الحلف بغير الله له حالات :
1 - شرك أكبر : إن اعتقد الحالف أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في التعظيم .
2 - شرك أصغر : تعظيم المحلوف به من غير اعتقاد المساواة .
لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف بغير الله فقد أشرك )). ( 5 )
وقد حكى ابن تيمية رحمه الله إجماع الصحابة على ذلك ( 6 )
- شبهة :
جاء عند مسلم في كتاب الإيمان : باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أفلح وأبيه إن صدق " . . فهل هذا قسم بالآباء وحلف بغير الله ؟
الجواب : عن هذا من وجوه :
1 - أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة وأنها لم تثبت فلا يصح نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم لمناقضتها صريح التوحيد .
2 - أن هذه اللفظة تصحيف من الرواة إذ الأصل : " أفلح والله إن صدق " وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات ؛ و " أبيه " تشبه " الله " إذا حذفت النقاط .
3 - أن هذا مما يجري على الألسنة بغير قصد .
4 - أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أبعد الناس عن الشرك فيكون من خصائصه لأن الناس لا يساوون النبي صلى الله عليه وسلم في إخلاص التوحيد .
5 - أن ذلك على حذف مضاف والتقدير : " أفلح ورب أبيه إن صدق " .
6 - أن هذا منسوخ ، لأن من عادة العرب أنها كانت تحلف بآبائها ، وأن هذا اليمين كان جارياً على ألسنتهم فتُركوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه ؛ وكان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينسخ ، قال ابن عثيمين رحمه الله : وهذا أقرب الوجوه . ( 7 )
- شبهة أخرى :
جاء عند البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب السمر مع الضيف من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، وفي القصة : " ..فنظر إليها - أي زوجته أم رومان رضي الله عنها - أبو بكر فإذا هي - اي الصحفة - كما هي أو أكثر منها فقال لامرأته يا أخت بني فراس ما هذا قالت لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات "
فهل قولها : " وقرة عيني " قسم بغير الله ؟!
أو ذلك قسم بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟!
الجواب عن هذا من وجوه :
1 - أن هذه اللفظة " وقرة عيني " هي من قول صحابية رضي الله عنها ، والأدلة الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد دلّت على النهي عن ذلك ، ونحن متعبدون بالوحي . وربما كان هذا من أم رومان رضي الله عنها قبل النهي أو أنها كانت تجهل النهي .
2 - أن هذه اللفظة " وقرة عيني " لم يخرجها مسلم في صحيحه رحمه الله على أنه ساق القصة ولم يذكر هذه اللفظة .
3 - أنه في رواية المسند جاءت من غير حرف " الواو " ( قرة عيني ) على سبيل مداعبة الزوجة لزوجها بأطيب الكلام أو على سبيل الدعاء أو الخبر لا على سبيل القسم .
4 - قال ابن حجر : ( قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه , يقال ذلك لأن عينه قرت أي سكنت حركتها من التلفت لحصول غرضها فلا تستشرف لشيء آخر , فكأنه مأخوذ من القرار , وقيل : معناه أنام الله عينك وهو يرجع إلى هذا . . وإنما حلفت أم رومان بذلك لما وقع عندها من السرور بالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصديق رضي الله عنه ) فلعل ذلك وقع منها لما حصل لها من شدة السرور ، كما أخطأ الرجل الذي قال : " اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " !
5 - قال ابن حجر رحمه الله : ( وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبي صلى الله عليه وسلم فأقسمت به , وفيه بُعد ) ( 8 )
6 - أن الواو هنا ليست واو القسم ، وغنما هي واو استئنافية على تقدير محذوف بعدها فيكون التقدير " لا وأنت قرة عيني " سيما أن سياق القصة صالحٌ لتقدير هذاالمحذوف . والله أعلم .
وعليه : فإنه ليس في الحديث دليل على جواز القسم بغير الله تعالى ولو كان المحلوف به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجّة لمن زعم أن النبي مخصوص في جواز القسم به صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال للرجل الذي قال : ما شاء الله وشئت قال له : " أجعلتني لله ندّاً قل ما شاء الله وحده " .
وقد حكى ابن تيمية رحمه الله النزاع في هذا ، وبيّن أن الجمهور على حرمة القسم به صلى الله عليه وسلم ، وأن الخلاف في ذلك ضعيف ( 9 )
يتبع....